Sunday, July 7, 2019

مصعب المنحوس


هأنذا، أنا الذي كُنت أكره المناسبات الرسمية وزيارات العائلة المتكرّرة وأتحجج بكل تلك الحجج التي لا يصدقها أبي وتحاول أمي إقناعه بها حتى لا يعلو الصراخ في المنزل، ها أنا أحمل بوكيه وردٍ جوري يلمعُ حُمرةً كأنه قد قُطف وغُسل اليوم، أذهب لزيارة أُناس لم أعرفهم بعد. أتجوّل في أزقّة البلدة القديمة باحثاً عن منزل مُصعب المنحوس وخطواتي تتسابق أمامي، وعندما أفكّر بالشهرين الماضيين أجد أن الأمر كان مُقدّراً، أو أنه على الأقل كان يسير بقوّة ما فوق إرادتي تدفعني إلى الأمام دفعاً. الأمر كلّه قد ابتدأ بكتاب مذكراتٍ أخذته عن طريق الصدفة من منزل في البلدة القديمة كنّا قد دخلناه نحن المتطوعون في الهلال الأحمر لمساعدة أهالي البلدة بعد الاجتياح الإسرائيلي. يا الهي كم استحوذ هذا الكتاب على تفكيري، وكم شعرت أنني -منذ حصلت على الكتاب إلى يومي هذا- قد تغيرت بشكلٍ سريع ومضطّرب. اقترب وقت العصر، وأنظر إلى الشمس الدافئة، واسأل نفسي: هل مجموعة من الكلمات اصطفت بكتابٍ عشوائي تستطيع إحداث كل هذا الأثر في داخلي؟

----- كتاب المذكّرات -----

أنا مُصعب المنحوس، الاسم الثاني ليس اسم عائلتي طبعاً، فالنحس قد ارتبط معي مُنذ مدّة طويلة لا استطيع معرفتها في الحقيقة حتّى ظننت أنّه أمر مُعطى، هكذا بدون تفسير. أمّي تقول لي أن بداية الأمر كانت مع أول يوم لي على هذه الأرض، فأنا قد وُلدت في اليوم الأول من الشهر الأول في السنة، ولا أعلم إذا كان والدي قد اعتبر أن مُصادفة يوم ميلادي في ذكرى انطلاقة حركة فتح هو نحس قد أصبتُ به حركة فتح فأصابها ما أصابها، أو أن حركة فتح هي من أعطتني النحس مباركةً لي حضري في نفس يوم الانطلاقة، لتكون انطلاقة النحس متجددة، وليصبح النحس مع مرور الزمن الشطر الثاني من اسمي.

اليوم الرسمي الذي حملت فيه اسم المنحوس لا استطيع نسيانه، فقد كان يوماً مهمّاً بالنسبة لي على كلّ حال. كُنت معروفاً بين أصدقائي بفأر الكتب، قرأت الكثير من الكتب، أعمال غسّان كنفاني خصوصاً، وكَان أصدقائي يعتبرونني جباناً، فالذي يقرأ لا يُقدم على أيّ عمل. لذلك كان اليوم المشهود مُهماً، ففيه قد انتقلت من حيّز التنظير إلى العمل على أرض الواقع، الأمر كان بسيطاً، انتظار الجيب العسكري المفتوح من الخلف وإمطاره بالحجارة. أصدقائي لم يصدّقوا أنني سأفعلها، وكمنّا في حارتنا بانتظار الجيبّات، وفعلاً، جاءت اللحظة التي سيطير فيها العصفور الصغير من العش، مسكت الحجرَ بيدي بانفعال من سيمارس الحبّ لأول مرة، وعندما فعلتها، أصاب الحجر زجاج الأمامي لسيارة والدي التي كانت تقف وراء الشارع. لا يزال والدي يتساءل حتى اليوم: مين ابن الكلب اللي كسر السيارة؟

هذا السبب بالإضافة إلى أسباب أخرى سبقته كان سبباً كافياً لأولاد الحارة حتى يدعونني بالمنحوس، لكن ليس كافياً بالنسبة لأصدقائي المقرّبين، على الأقل ليس بعد. عندما كُنت في الجامعة شاعت قصّة حُبي بفتاة جميلة بين أصدقائي، كُنا على وفاقٍ تام، وحُبٍ يتجدّد ويزداد مع مرور الزمن حتى أصبحت قصّتنا مجال حسدٍ وترقّب. وما أن انتهيت من الدراسة وجهّزت نفسي حتى أذهب لخطبتها حتّى ارتبطت بابن عمّها المهندس الذي جاء من الخليج. بهذا النحس انتهت قصّتنا العظيمة، انتهت بسببٍ اعتقد الجميع أنه لا يحدث إلا بالمسلسلات والأغاني، وهذا السبب الذي يحدُث كل عشر سنواتٍ مرّة منذ اكتشاف النفط، حدث معي. وهُنا رسمياً أصبحت أُعرف بمصعب المنحوس، هذا بالنسبة للأسباب التي يعرفونها هُم، أما تلك التي لا يعرفونها، فهذه قصّة أخرى.

بعد تلك الحادثة المشئومة أثناء رشق الحجارة، لم أتوقف بعدها عن الذهاب مع أصدقائي إلى المواجهات مع الاحتلال، حتّى أصبحت أنا من يقوم بتشجيعهم للذهاب ورمي الحجارة على جيبّات الاحتلال وجنوده، هذا الأمر لم يمنع بعضهم من أن يقول لي قبل ضرب الحجارة: اسمع هاي سيارة أبوي اللي هناك، مش تفضح عرضها؟

لم أتوقف عن القراءة، ووسعت دائرة قراءاتي وهذا الأمر لم يزدني سوى اقتناعاً بقضيّتنا ونضالنا. شُهرتي بحب القضية والاستعداد لفعل المستحيل لإلقاء الحجارة جعلت شابّاً لم أره من قبل يتواصل معي، قال لي بأنّ هنالك عملية استشهادية يتم التحضير لها وهُم بحاجة إلى استشهادي، لم أتردّد أبداً. في أقلّ من أسبوع كنت قد ارتديت الحزام الناسف وتوجّهت إلى المكان المُتفق عليه، ركبت الباص المليء بالصهاينة، كان الصمتُ رهيباً، صمت لا يشعر به سواي، سَكينة وطمأنينة حلّت على قلبي وروحي، وضعت يدي بجيب الجاكيت، مسكت الصاعق لأضغط على الزر، أغمضت عيناي، أحسست بأن روحي بدأت بالصعود إلى الأعلى، وضغطت الزرّ حتى لا تسبقني! لكن شيئاً لم يحدث! بدأ العرق ينهمر من رأسي وتبعه بذلك كلّ جسدي، يا للورطة! بلعت ريقي بصعوبة، أمسكت الصاعق مرّة أخرى، بدأ لُعابي يتجمّع في حنجرتي، ضغطت على الزر، لا شيء حدث، وبلعت ريقي. عرفت وقتها أن اليوم هو ليس يوم رحيلي، حافظت على هدوئي ونزلت في المحطّة المجاورة وأسرعت عائداً إلى المنزل. في اليوم التالي زارني ذلك الشاب الغامض وأخبرته بما حدث، فهدّأ من روعي وقال لي أن هنالك عمليات أخرى وما عليّ سوى الانتظار.

انتظرت كثيراً ولم يحدث شيء، وبعدها علمت باستشهاد الشاب الغامض فانقبض قلبي، وبعدها استشهد يحيى عيّاش، وعندما رأيت صوره التي انتشرت بعد استشهاده أصابتني الذاكرة كالصاعقة، الذي ألبسي الحزام الناسف كان هوَ، بشحمه ولحمه، لم تسنح لي الفرصة لتقبيل رأسه أو النظر إليه مدّة أطول، شعرت بيأسٍ حارق ونحس لم يعد غريباً علي، فها هي فرصتي الوحيدة قد ضاعت وإلى الأبد. هذا ما ظننته أنا، لكنّ القدر كان يخبّئ لي أمراً آخر.

بعد مرور وقتٍ طويل على تلك القصّة، اندلعت الانتفاضة الثانية، وكُنت قد عدت إلى رشق الحجارة من جديد، ما لم أعرفه وقتها أنّ القدر قد رتّب لي فرصة ثانية، فقد زارني أحد أصدقائي الذين أثق بهم، وقال لي أنه يعمل على تشكيل خليّة مسلحة، وبالطبع، لم أتردّد أبداً. تم اختياري للذهاب إلى عملية نصب كمين أشارك فيها وحيداً في منطقة نائية من قرى نابلس، أعطاني صديقي السلاح الذي تدربت عليه طويلاً، وانتظرت هذا اليوم على أحرٍ من الجمر. كنّا قد رصدنا جيباً يسير وحده في تلك المنطقة، وهو هدف سهل يستطيع شخص واحد القضاء عليه. كمنتُ على جانب الطريق بين شجر الزيتون في انتظار الجيب، وعندما لاحَ من بعيد قمت بتعشيق سلاحي، صوّبته نحو الهدف، الحياة كلّها قد اختصرتها بإشارة سبعة البارزة من سبطانة البندقية التي تُشير نحو الهدف. أتنفسُ بعمق استعداداً لضرب رصاصات لا تُخطئ الهدف، وعندما أصبح الجيب على مقربةٍ مني، وجدت بداخلها ثلاثة شبابٍ فلسطينيين صغار كان الاحتلال قد اعتقلهم بسبب ضرب الحجارة، وهذا يعني أن إطلاق النار مستحيل بدون أن اقتل الشباب أيضاً. كتمتُ غيظي وحسرتي وعُدت إلى المنزل، وفي نفس الليلة جاء صديقي مُستعجلاً وغاضباً وقد قام بتوبيخي وقال لي أن هذا السلاح للرجال فقط. كان اجتياح المُدن قد بدأ، ولم استطع إخباره بما حدث، شعرت بأن أي كلمة أخرى لن تزيدني سوى حسرة.

بدأ الاجتياح وأنا في منزلي استمع إلى صوت الرصاص والاشتباكات المتكرّرة، وها أنا مُصعب المنحوس قد أجلسني نحسي في منزلي بينما أصدقائي يقاومون في الخارج. قررت أن أقوم بشيٍ ما، ولو كان تافهاً، أخذت بعض الطعام من الثلاجة، وقررت التوجّه نحو المقاومين لأزودهم به. وما أن خرجت من المنزل حتّى شاهدتُ مقاوماً يحاول قطع الزقاق الضيّق في حارتنا، وما أن خطى أول خُطوة نحو الشارع الضيّق حتى أصابته رصاصة قنّاص في رأسه، ارتميت على الأرض فوراً وتناثر الطعام على الشارع، بقيت على هذا الحال حتّى نزول الليل، زحفتُ إلى ذلك الشاب المقاوم، وجدتّ بندقيته جديدةً تلمع، أخذتها مع مخازن الرصاص التي كانت بحوزته وتوجّهت إلى المنزل بسعادةٍ لا تستطيع الدنيا احتوائها. الآن أنا أكتب هذه الكلمات وبجانبي بندقيّتي، أضحك بسعادة بينما أتذكر أغنية إم كلثوم "قد أصبح الآن عندي بندقية"، نعم قد أصبح الان عندي بندقية، ولن أعيش على هامشِ النحس مرةً أخرى.

------ انتهى كتاب المذكّرات -----

قرأت هذه المذكّرات عشرات المرّات، كُنت حائراً بين تصديقها أو اعتبارها عملاً أدبياً لشخص يحب الكتابة ويقوم بها من أجل التسلية، ربّما كانت بداية رواية كان يحلم صاحب المذكرات هذه أن يُخرجها إلى العلن. لكنّ الحقيقة صعقتني ومنحتني الإجابة على هذا التساؤل الذي طال أكثر مما ينبغي. انتشرت على الجرائد العبرية أخبار مفادها عن عملية بطولية كانت سببا بالانسحاب الإسرائيلي من مدينة نابلس وتأجيل الاجتياح حتّى وقتٍ آخر، أما تفاصيل العملية فكانت صعبة على التصديق.

قامَ شاب في أواخر العشرينيات من العمر باقتحامِ بيتٍ مُطلٍ على البلدة القديمة اتخذه الجنرال العسكري ثكنةً ومركزاً لقيادة العمليات وتوجيهها، لا أحد يعرف كم المدّة التي انتظرها الشاب حتى استطاع اقتحام المكان، الناجي الوحيد من مكان الاشتباك قال أن شاباً لا يضع لثاماً فتح الباب بقدمه بدون أن يصرخ أو حتى أن يقول كلمةً واحدة، كان سلاحهُ مُعشّقاً وجاهزاً لإطلاق النار، رفعه نحوَ الجنودِ المتجمهرون حول الجنرال الذي يقوم بشرح خطةٍ للقضاء على المقاومة في البلدة القديمة، وقف الجنود من هول المفاجأة بلا حراك ، وما هي إلا لحظة قصيرة، أقلّ من كافية ليرمش الجفن، كان الرصاص يتطاير من سلاحه نحو الجنود، استطاع قتل كلّ من كان في الغرفة بمن فيهم الجنرال. حوّط الجنود الذين كانوا بالخارج المنزل، واستمرت الاشتباكات عدّة ساعاتٍ قبل أن يتمكنّوا من قتل ذلك الشاب الذي هزّ بشجاعته دولةً بأكملها.

وهأنذا أسير باتجاه الحارة التي ذكرها التقرير في الجريدة بأن مُصعب ابن من أبنائها، أمسك بوكيه الورد الذي كرهته سابقاً وكرهت كلّ ما يمثّله، لكن اليوم مُختلف، حتّى طعم الهواء اختلف، قرّرت أن أذهب لأم مُصعب حتى أقول لها أن نحس ابنها كان أفضل منّا جميعاً، وأن أم الشهيد هي أمّنا جميعاً. استوقفت فتىً كان يسير بالشارع وسألته: بتعرف وين بيت مُصعب المنحوس؟، أجابني ضاحكاً فخوراً: قصدك قلعة مُصعب البطل؟

بدأ الاجتياح وأنا في منزلي استمع إلى صوت الرصاص والاشتباكات المتكرّرة، وها أنا مُصعب المنحوس قد أجلسني نحسي في منزلي بينما أصدقائي يقاومون في الخارج. قررت أن أقوم بشيٍ ما، ولو كان تافهاً، أخذت بعض الطعام من الثلاجة، وقررت التوجّه نحو المقاومين لأزودهم به. وما أن خرجت من المنزل حتّى شاهدتُ مقاوماً يحاول قطع الزقاق الضيّق في حارتنا، وما أن خطى أول خُطوة نحو الشارع الضيّق حتى أصابته رصاصة قنّاص في رأسه، ارتميت على الأرض فوراً وتناثر الطعام على الشارع، بقيت على هذا الحال حتّى نزول الليل، زحفتُ إلى ذلك الشاب المقاوم، وجدتّ بندقيته جديدةً تلمع، أخذتها مع مخازن الرصاص التي كانت بحوزته وتوجّهت إلى المنزل بسعادةٍ لا تستطيع الدنيا احتوائها. الآن أنا أكتب هذه الكلمات وبجانبي بندقيّتي، أضحك بسعادة بينما أتذكر أغنية إم كلثوم "قد أصبح الآن عندي بندقية"، نعم قد أصبح الان عندي بندقية، ولن أعيش على هامشِ النحس مرةً أخرى.






No comments:

Post a Comment