Saturday, April 16, 2016

ألم تعطني أنت هذا الظلام؟


في الصف الثامن إن لم تخنّي الذاكرة، وهي تخونني غالباً بالمناسبة، كان هنالك اليوم الذي أكرهه أكثر من أي يومٍ آخر في المدرسة؛ يوم الاجتماع بأولياء الأمور، وسبب كرهي له لا يعدو أكثر من أنه وبكل بساطة ليس لدي أي شيء أفخر به في حياتي المدرسية لكي أجعل أهلي يرفعون رأسهم أمام أساتذتي، كنت طالباً أقلّ من عادي وبعلامات تتراوح بين النكسة والنكبة. لكن في ذلك اليوم حُفرت في ذاكرتي جملة غير عاديّة من أستاذ الفن، أستاذ فن بحق، ليس مجرد شخص لا علاقة له بالفن وساقه القدر وحظه التعس ليصبح مدرسّاً لمادة الفن، بل هو فنّان فعلاً، يرسم بشكلٍ جيّد وصاحب صوتٍ رائع - ينشد مع فرقة مشهورة - وله خط جميل جداً. قال لوالدتي : براء يجب أن يعرف أنه ليس بحاجة لأن يتصرف أي تصرف ليجذب الانتباه إليه.

تعرفون كلّ تلك التشبيهات؛ مياه باردة صُبت على رأسي، نور ساطع من خلف النافذة، سقوط من مكان شاهق، وكل تلك الجُمل التي تُريد أن تقول لك أنه في لحظتها كُشفت الغشاوة لديّ عن أمرٍ كنت أفعله بلا وعي، ليصبح مفهوماً لديّ. كُنت أحاول بتصرفات ما وبأوقات مختلفة أن أجذب الانتباه لأنني أشعر وكأني مدفون تحت الرمل بسبب اسم والدي، وكأن الإسم يجعلني غير مرئي أبداً، براء الشفاف، ينظرون إليّ فيبصرون ما ورائي، والطريقة الوحيدة لأجعلهم يرونني هو أن ألفت انتباههم.

قد بلغت من العمر رقماً لا بأس به، والشيب بدأ يتسلّل على مهلٍ، لكن بخطى ثابتة لا تتراجع ولا تخفّف من ثقلها. قبل عدة أشهر أمسكت جدّتي رأسي لتقول لي والدهشة تعلوها: صرت شايب! لسا ما شفت شي من الحياة. طبعاً لم أتمكن في تلك اللحظة من شرح الأشياء التي أرتني إياها الحياة، فأنا أمام جدّتي التي تكبرني بأكثر من حياة، وتجارب لا يمرّ فيها الإنسان الطبيعي، وقد عاشت في زمنٍ آخر عندما تذكره لي يبدو وكأنه قد خرج من كتب السحر القديمة، قصص خرافية لا تُصدّق.

يقول درويش في محاولته لمواجهة الابتذال “سأحرس الشهداء من هواة الرثاء”، وأنا أكثر تطرفاً، أقول أن الشهيد يجب أن يكون مقطوعاً من شجرة، بلا أهل ولا أسرة، فوجودهم وظهورهم بعد اختفائه بكلّ بشريتهم الناقصة تجعل المشهدَ أقل مما أحبّ تصوره، حتّى أجد أنني أفضل من الشهداء أولئك الذي لم يكوّنوا أسرة، لم يغريهم الخلود البيولوجي في هذه الدنيا. لكنني بدأت أتراجع قليلاً عن هذه الفكرة، لأنّ فيها تراجعاً عن الحياة نفسها. هذه الفكرة تعميمية ويشوبها الكثير من المشاكل، لكنّها مشاعر، أوليس هذا ما يميّز المشاعر بالأساس؟

"هل نحن ما نصنع بالزمن أم نحن ما يصنع الزمن بنا؟"، في مُقدمة مسلسل قلم حُمرة، يخبرك الراوي بالبديهية الوجودية التالية: أنت تشاهد المسلسل لأنك لا تفعل شيئاً آخر. لو أن لديك شيئاً آخر تفعله في حياتك ذا معنى لما كنت تجلس الآن وتستمع لكلامه، إذاً المشكلة أننا هنا نشاهد المسلسل لأننا لسنا في مكانٍ آخر نفعلُ شيئاً آخر، لكن اعتقد أن هذه المقولة هي تحايل على المشكلة وهروب منها؛ وجودنا ناتج عن الحالة التي نفعلها الآن من مشاهدة المسلسل وعدم الوجود في مكانٍ آخر، لأن لو حدث الأمر الثاني لكان وجودنا مختلف، كأن تولد من أمٍ مختلفة وتحاول تخيّل الحياة حينها من مكانك/وجودك الحاضر. ألم تحلم بأن تعيش حياة طبيعية؟ ماذا لو كان والدك على قيد الحياة؟.. والأسئلة التي لا تنتهي. أبدع ميلان كونديرا عندما قال أن حياة واحدة لا تكفي، لا مجال لدينا لتجربة الخيارات ورؤية النتائج ومن ثم العودة للاختيار الأفضل. ولا نعرف ماذا نفعل بحياتنا بما أنه ليست لدينا حياة سابقة نقارن حياتنا الحالية بها. كنت أمرّ أنا وصديقي على المخبز القريب من مكان سكني، صاحب المخبز هذا عرفني عندما دخلت ليطلب منّي عدم دفع ثمن الخُبز، أنا رفضت وقلت له إذا لم تعاملني كأيّ زبون آخر سأشتري من مخبزٍ آخر. عندما خرجت من المخبز قلت لصديقي انني أكره هذا الموقف، فقال لي: لا أنت تحبّه. أحبه أم أكرهه؟ حياة حالية غريبة أم حياة طبيعية عادية؟ لا أعلم. كلّ ما أعرفه أنني مثل أي طفلٍ يحبّ أن يخبره الآخرون أن والده هو أفضل والد في العالم.

لنقتبس درويش مرّة أخرى: “في حضرة الغياب” دائماً ما كنت مجذوباً إلى التلاعب بالكلمات والأبيات الشعرية التي تلعب على وتر التناقض والمجاز، أن يدخلك الكاتب المجاز كما تدخل الجنة، ويخرجك منها لتكتشف بعدها خطيئتك وما فاتك. أو الأبيات الاهتيامية التي برع فيها الصوفيّون، تلك الأبيات التي تُذاق ولا تُفهم، كما وصفها هادي العلوي. ربّما لهذا السبب أطلق تنهيدة في كلّ مرّة عند نهاية فيلم “ألف مبروك” وكأنّ جملة الخاتمة أسمعها لأوّل مرة بفرحة الاكتشاف الأول، الفهم الأول، “ما أعظم أن تكون غائباً حاضراً على أن تكون حاضراً غائباً”. الحياة هي عبارة عن السعي المتكرّر بين العبث والمعنى، بين “الجحيم هو الآخر” و “الجنة بدون ناس ما بتنداس”.

عندما أرى النصوص الدينية المتناقضة في ظاهرها، أرى عظمتها في هذا التناقض بالذات، فالإنسان بطبيعته مليء بالتناقضات، ويحتاج نصوصاً متناقضة لتناسبه. لذلك أستطيع أن أقول بشكلٍ ما أنا محظوظ؛ فهذا الوعي الكثيف بالواقع، والحياة الجوّانية المليئة بالأشجار المختلفة تجعل من ممارسة العيش لذّة مجهولة. فحتى أنا كيتيم، لا أجد هذا الوصف يناسب وضعي الغريب، فرحيل والدي، جعله أكثر حضوراً في حياتي، وهذا سببه بالغالب تصرّفات الناس معي. كثيراً ما كان يساعدني، لأعود إلى المنزل وأقول له شكراً، لو كُنت أباً من لحمٍ ودم ما قدمت لي هذه الحياة، لكنّك الآن مجبول من لحمٍ ودم.. والأحلام.

“ألم تُعطني أنت هذا الظلام
وأعطيتني أنت هذا السّحر؟”




3 comments:

  1. صار عندي فضول اعرف مين هو والدك(الله يرحمه؟) ..

    ReplyDelete
    Replies
    1. و من لا يعرف يحيى عياش ......رحمه الله

      Delete
  2. ومن لا يعرف والدك يا براء....الاسطورة المهندس يحيى عياش...كونك ابنه لا يمحو شخصيتك ولا يلغي هويتك...لربما يعكس صورة يحب ان يراك الناس بها ويفرض عليك ان تكون غير ما تكون....ولكن بعيدا عن فلسفة الامور وتلاعب الالفاظ....فانه حق لك ان تفرح فالشهيد يشفع في سبعين من اهله...ومن لديه بعد نظر حقيقي يدرك لا محاله ان ما عندكم ينفد وماعند الله باق

    ReplyDelete