Friday, November 6, 2015

في الحديث عن الأشياء

لم يزدنِ الورد إلا عطشا

(1)

قلت لصديقي الذي أسكن معه: إن صوت الثلاجة مُزعج. فاقترح علي بأن أقوم بإغلاق باب المطبخ للتخفيف من صوت إزعاجها. لم يفهم ما قصدته، ليس عندي مشكلة بالإزعاج الناتج عنها، فهذا الإزعاج بمقدار علوّه سيأتي بعده هدوء لن يستطيع أن يكون بهذا الصخب لولا الإزعاج الذي سبقه. هل يجبْ أن يسبق الهدوء إزعاجٌ؟ ألن تكون الحياة أسهل وأجمل فقط بهدوء يبدأ ويستمر للأبد؟
بعد مدّة من الهدوء اشتعل صوت الثلاجة مرّة أخرى، أزعجني هذا الأمر كمّن يطرق رأسي بيده ظنّاً منه أن صاحب الباب لا يريد أن يفتح له، لكنّي فكّرت، لو لم يزعجني محرّك الثلاجة، هل كُنت سأدرك أنني كنت في مرحلة تُسمى الهدوء؟ هل يمكن للهدوء أن يُوجد بدون إزعاج؟ ألا ينفي نفي الإزعاج الهدوء أيضاً؟ أي ضدّه؟ هل من وجود للشيء بدون عكسه؟

(2)

وما صبابةُ مشتاقٍ على أملٍ .. كصبابةِ مشتاقٍ بلا أملِ

(3)

لا يدوم اغترابي .. ولا غناء لنا يدوم

(4)

وقد قيل قديماً: من يريد أن يكتب في الحبّ، عليه أن يطلب إذن الرافعيّ أولاً. عندما أجد أن كتاباً يحمل كميّة كبيرة من الذاتيّة قد أعجبني، أجد أنني بدأت بقراءة كتبٍ أخرى لنفس الكاتب حتّى أفهم الكتاب الأوّل أكثر، فالنص الذاتّي يحمل جزءاً كبيراً من الكاتب، فأقوم بالبحث عن الأجزاء الأخرى في الكتب المتبقية، ومن ثمّ أقوم بقراءة سيرته الذاتية، أو ما كُتب وقيل عنه، فبذلك أكون عند قراءة النصّ مرة أخرى، مشاركاً له في كتابته وليس مجرّد متلقٍّ سلبيّ، حيث يمكنني حينها فهم السبب الذي دعاه لكتابة هذه الجملة، وماذا يحمل من ورائها، وكيف كانت الأفكار تتصارع في عقله، فكتب ما كتب، وأخفى ما أخفى.

عندما بحثت عن سيرة الرافعيّ، وجدتّ أن له قصتيّ حبّ، واحدة من فتاة شاميّة، جعلته يبدع كتاب رسائل الأحزان، والأخرى هي الأديبة المعروفة ميّ زيادة، جعلته يبدع كتاب أوراق الورد. في البداية كُنت مأخوذاً بسحر لغته، حيثُ يطوف بالحبّ ما فوق الغمام، ويجعلك تسبح في عالمٍ ليس له حدود ولا قيود. لكنّني بعدها بدأت بمساءلته، أو بالأصح، ساءلته بعدما وضعت المشاعر هذه وأسبابها موضع سؤال. كيف استطاع الرافعي، أن يحب فتاتين بنفس القوّة؟ ألا ينقص هذا الحبّ وينزل به إلى الابتذال؟ ما فائدة قول أن هذه الفتاة هي "الوحيدة" ونكتب لها أنقى الكلمات وأغلظ الوعود، ومن ثمّ نعود سيرتنا الأولى مع فتاة مختلفة؟ ومن ثمّ؛ فزوجة الرافعي كانت على علمٍ بالمراسلات التي بينه وبين ميّ زيادة لكنّها لم تعترض، لأنها تعرف أن هذا الحبّ لن يؤدّي إلى أي شيْ حقيقي. وهذا أمر آخر يجعلنا نتساءل، لماذا لم يقم الرافعي بكتابة هذه المشاعر إلى زوجته؟ هل هنالك علاقة متعاكسة بين الزواج والحب؟ أو علاقة طردية بين البعد وانعدام الأمل والحب؟

(5)

ألا أيها الركب النيام ألا هبّوا
أُسائلكم، هل يقتلُ الرجلَ الحبُّ؟

(6)
اشتهر الحُب كسببٍ لموت شباب بني عذرة، واشتهر على لسانهم لفظة "العشق" التي نهى عنها ابن قيّمٍ الجوزيّة، فمعنى العشق كما قال: أمرّ هذه الأسماء وأخبثها، وقلّ ما وُلعت به العرب. قال في الصحاح: العشق هو فرط الحُب. وأصله من شجرة تخضر ثم تدِق وتصفرّ. وقيل أن أحد شباب بني عذرة رأى صديقه عاشقاً فخاف عليه فسأله:

مالك وضّاحٌ دائمَ الغزلِ .. ألست تخشى تقاربَ الأجلِ؟

(7)

من منّا لم يسمع ببني عذرة، هذه القبيلة التي سُميّ الحبّ العذري على إسمها فدرج على هواهم شعراءٌ عظام، هؤلاء الذين اقترن اسمهم باسم محبوباتهم: جميل بثينة، كثيّر عزّة ومجنون ليلى. فأخرجوا لنا قصص حبٍ أشبه بالأساطير، حتّى دعا لهم الشيوخ بالصبر والسلوان. من منا لم يحلّق مع محمد ابن عامر وهو يقول لصبح: حد الجوارح وما نملك أم حد الروح والقلب والخيال؟

من الصعب جدّاً أن لا تتعاطف مع مُحبٍّ بلا أملِ، هذا العاشق الذي تمنعه "كل الحدود والقيود" من الوصول إلى محبوبته، حتّى يبلغ منه الهوى مبلغه، فإمّا يُجنّ كحال صحابنا قيس، أو يموت عشقاً كما اشتهر شباب بني عذرة، فكما قيل في الحديث:  من عشق وكتم وعف فمات فهو شهيد.

العديد من الدراسات تناولت هذه الظاهرة وحلّلتها وبيّنت أسباب ظهورها السياسية والاقتصاديّة، وهذا ليس ما أريده هنا، الطاهر لبيب لديه كتاب ممتاز يتناول هذه المواضيع ويبيّن الفارق بين العفّة التي تغنّا بها المحبّون والعفّة بمعناها الديني. ما نريده هنا، قد بحثه صادق جلال العظم في كتابه: في الحب والحب العذري. ما أذهلني في قصصهم هو هذا الانشطار الذي يُصيب المُحب جرّاء عدم الوصول، والتوق الدائم للمحبوبة. لكن عندما نقترب منهم كثيراً نجد التالي:

كان المُحب في حالاتٍ كثيرة يستطيع الحصول على محبوبته لكنّه يضع كلّ الحواجز الممكنة حتّى لا يحصل عليها، ما إن يقترب حتّى يبتعد، وعندما تكويه نار البُعد يعود لطلب الوصال. وبهذه العمليّة الضدّية يبقى الشوق والحبّ مشتعلاً لا يخبو. والجنس أيضاً كمحرّك أساسي يدفع للوصول، يقوم المُحب بعدم إشباعه من خلال التعفّف، فتبقى المعركة بداخله على أشدّها. فوالله ما في القرب لي منك راحةٌ *** ولا البعد يسليني ولا أنا صابرُ

في حالاتٍ كثيرة يعظم فيها الحّب، فنجد "حُبّ الحب"، أي عندما يُصبح الحب هو الهدف، فينفصل الموضوع عن الإحساس، فقد قال مجنون ليلى: شغلني حب ليلى عن ليلى. لي صديق في حالةِ تغيّرٍ ونضوجٍ مستمرة، حتى أكاد لا اعرفه إذا غبت عنه لأكثر من شهر. قال لي في آخر لقاء: قد مضى سنّة ونصف تقريباً مُنذ آخر لقاءٍ جمعني بها، هذه المدّة كانت كافية لتجعلني إنساناً آخر، وعندما أفكّر بهذا الأمر، أتساءل عن حالها، فيدفع في نفسي رهبةً من التقرّب إليها، أخاف أن تكون أصبحت إنساناً لا أحبّه، إنساناً غير ذلك الذي عرفته وقد سكن في داخلي طوال هذه المدّة. فينكسر كلّ شيء إذا تواصلت معها. هُنا صديقي قد جعل منها موضوعاً منفصلاً عن الواقع يُحبّه، حتّى لو تغيّرت فهذا الأمر لا يعنيه، فهو يفضّل أن يبقى مُحبّاً "لها" على أن يتواصل "معها"

هه صحيح، هل تعلمون أن التيّم حسن خان زوجته مع نسرين طافش أثناء تصوير مسلسل ربيع قرطبة؟

(8)

لكلّ شيءٍ إذا ما تمّ نقصان

(9)

يقولون في الحياةِ الكثير، هي أزرار البيانو البيضاء والسوداء، وبهذا التشبيه الذي يشكّل السعادة والحزن تمتزج الحياة لتظهر لنا بهذا اللحن. لكن هذا أمر يدفعني للتساؤل؛ إذا كان البيانو نفسه، والأزرار نفسها، لماذا يكون اللحن في حياةِ كلّ إنسان مختلفاً؟ بعضهم حزين والآخر سعيد؟ في بحثٍ أجراه حسين البرغوثي عن الشقاء والسعادة في اﻷدب، وجدّت أن السعادة هي العلاقة مع الذات، لنقل هي سرّ الحياة، الحياة هي موقف تتخذه مع نفسك، لا يهم عدد الأزرار السوداء أو البيضاء، أنت تقرّر ما اللحن الذي تريد عزفه، "إن كنت تقف في داخل نفسك في المكان الصحيح، فحيث تقف هو المكان الصحيح".

هنالك من يعيش الحياة ويخرج منها وهو لا يعرف عنها شيئاً، يغوصون داخل فروة الأرنب بالتعبير الفلسفيّ، وهنالك من يفكّر في الحياة كثيراً لدرجة أنه ينسى أن يعيشها، أن يُمارس فعل الحياة. حسين كان مأخوذاً بالخطّ الرفيع الجميل بين عيش الحياة والاندهاش بها، المزاوجة المستمرّة بين ممارسة فعلِ العيش والانخراط بنضالاتها وبين أخذ وقتٍ للتأمّل فيها.

(10)

من لا يستطيع تقبّل كلّ هذا المجهول يسقط في عدميّة ساخرة من الحياة، أو يأخذ مواقف صلبة منها، يجعل الحياة بليدة، وتُحلّل حسب مبادئة الميكانيكية. لكن نحن، من رأى الله تقلّب وجهنا في السماء، فجعل قبلتنا الجمال في كلّ شيء، في العيون التي نراها ولا ترانا. نحن من تدهشنا رؤية النجوم كلّ ليلة، وكأننا نكتشف وجودها هناك لأوّل مرةّ، كلّ مرة. نحن من نقف على أصابع أقدامنا لنسيمٍ يداعب أوراق الشجر، وضحكةٍ من طفلٍ يوجّهها نحونا، أو لشيءٍ آخر. سنبقى نحسّ برهبةٍ، كلّ ما نظرنا، إلى الخارج، في ملكوت الله، أو إلى دواخلنا، وهناك، سنجد قصّة أخرى.






10 comments:

  1. شي جميل اني بلشت يومي بقراءة جمال ماكتب

    ReplyDelete
  2. وانا فعليا ابحث في سيرة الكاتب الذاتيه لأفهم ما كتبه او بالاصح ليأخذ ما كتبه شكل 3d في مخيلتي واعيش مع الروايه وادخل في اعماق الكاتب وبماذا كان يفكر ويشعر ولكي لا تبقى كلماته حبر على ورق...

    ReplyDelete
  3. "الحياة هي موقف تتخذه مع نفسك"
    وكما تتغير علاقتنا مع الذات مع مرور الوقت
    فايضا موقفنا من الحياة يتغير ..ربما لأشياء تمنيناها ولم تحدث ،، او حسابات غابت عن اذهاننا وهي سبب فصل الموضوع عن الاحساس


    "لا يدوم اغترابي ولا غناء لنا يدوم

    ReplyDelete
  4. لا تعليق !

    ReplyDelete
  5. لا تعليق !

    ReplyDelete
  6. " الصمت في حرم الجمال جمال . "

    ReplyDelete
  7. يا اخي والله هالمكان سلوى في كل وقت! كيف تفعل ذلك ؟

    ReplyDelete