Saturday, October 3, 2015

الحب كنافذة للوجود

في نظرته الخاصة للوجود يقول الفيلسوف هايدجر بأن الإنسان صاحب وجودين: الأول وجود اعتباري أو مجازي؛ وهذا الوجود عبارة عن مجموعة العلاقات التي تربط الإنسان بخارجه، بالإضافة إلى العادات والعواطف والأحاسيس والأعراض التي تظهر عليه. هذا الوجود يشكّل بداخله "شخصية وجودية" عرضية، هي التي تلوّن الأنا بألوان هي الظروف الطبيعية والاقتصادية والثقافية والعلمية، أو ما يعبّر عنها بالبيئة الخارجية. وهذه الشخصية الخارجية هي موضوع علم الاجتماع والنفس وفروع العلوم الانسانية المختلفة.ولأن طبيعة هذه العلوم تعتبر نفسها حتمية وحقيقية، فإن علم الانسان المعاصر يعرف الإنسان بهذه الألوان فحسب. فهي إما أن تتعامل مع الإنسان بقوالب واضحة وحتمية. وإما أنها تضرب غموضاً في كنه الذات والوجود الجوهري للإنسان وتفضّ يدها منه. فتفسّر الشر كظواهر، أو مقولات مادية تعد من صنع العوامل والروابط الميكانيكية الطبيعية للعرق والوراثة و وسائل العمل والنظام الاجتماعي والاقتصادي..الخ. فأصبح الوجود الظاهري للأنسان هو ما يفسّره: الإنسان الفلاح، الإنسان العامل، الإنسان الاقطاعي، الانسان البرجوازي، البيروقراطي ..الخ.

لكنّ الإنسان بتعبير هايدجر له وجود آخر، هو وجود ذاتي وحقيقي. هو جوهر وجودي مختفٍ تحت هذه الألوان العارضة، وهي معنى وجود إنسان ذا أصاله وعلّة مستقلّة وحرة عن العلل المادية والحتمية الاجتماعية. لكن في الأحوال اليومية عندما يعيش الإنسان حياته الروتينية فأنه يغفل عن حقيقة هذا الوجود، ويتم تشكيله طبقاً للمقتضيات الإقليمية والوراثية والاجتماعية. ويقول هايدجر أن العشق والموت والهزيمة هي ثلاث لطمات قوية ترد أنظاره إلى داخله بعدما كانت مشغولة في النظر إلى غيرها وما حولها. في هذا التغيير يدرك أحواله الحقيقية، وهي أعمق عواطفه ومدركاته وتجاربه الانسانية وأسماها وأصدقها. وتكون هذه اللحظة فارقةً في تاريخه، حيث يمكنه أن يصنع تاريخه ويختار انحيازاً بناءً على إرادته ووعيه هو. طريق يختاره هو بعدما كانت الظروف والوجود الرمزي تحدد كلّ شيءٍ له.

الموت من وجهة نظر هايدجر هو إحدى اللطمات الثلاث التي تفجّر الوجود الداخلي والحقيقي للإنسان. أن تشاهد إنساناً عزيزاً على قلبك يلفظ أنفاسه الأخيرة، ويرحل من هذه الدنيا بعدما تعلّق بها كثيراً واهتزّت قدماه رفضاً للنهاية، ولكن بعد كلّ هذه  المعركة سكون تام. "تُنسى كأنّك لم تكن"، تتلاشى من الوجود وتنسحب شيئاً فشيئاً إلى اللاشيء. هذا قد يصدم الإنسان ويدفعه إلى مراجعة شاملة لكل شيء في حياته، مراجعة تجعل وجوده الذاتي يتحقّق.

عندما ننظر مرّة أخرى إلى ما قاله هايدجر نجد أنه قد أسبق العشق بالموت، فجعل الحب سبباً أقوى من الموت. وهذا أمر يمكننا فهمه إذا نظرنا إلى العشق المزلزل كحالة موت فردية، أي أن الشخص الذي شاهد صديقه يموت يحدث له كلّ هذا، فكيف بمن مات، إذا عاد إلى الحياة؟

ليس كلّ الموت واحد، فكما أن الحياة والحب والموت أمور لا يمكن تعريفها، فالموت قليله يفعل فعله، وكثيره نمرّ عليه مرور الكرام، نمشي أمام المقابر بدون أن يرفّ لنا جفن، ويموت من نعرفهم فنقول رحمهم الله ونمضي، ويمكن أن نمضي حياتنا كلّها بدون أن نصادف الموت كنافذة للوجود الداخلي. وكذلك الحب، فغالبه قصص طريفة وتجارب عابرة، ومن يأخذ الموضوع على محمل الجد قد يبكي ويسهر على وقع أغاني مصطفى كامل والصور الحزينة، ومن ثمّ يجد نفسه يحبّ مرةً أخرى.. لكن أحدهم في مكانٍ ما، قد ذاق الحبّ فعرفه، ونام، وعندما أفاق وجد نفسه.. إنساناً.



3 comments: