Friday, March 27, 2015

جُرح لا يندمل


أما قبل، فكان يفكّر، وأما بعد، ما زال يفكّر، يبدأ التفكير بها، وينتهي إليها، وكأنّ في عقله بوصلة لا تشير إلا إلى ميناء عينيها، وكأنّه سفينة مُبحرة تلاطمتها الأمواج وهدّتها العواصف ومزّقتها الصواعق، وبعد العاصفة والغيوم السوداء تُشرق الشمس على استحياءٍ كما كانت تَظهر وراء المنعطف حيث كان ينتظرها، تأتي إليه رويداً رويداً، ومع كلّ خطوةٍ كانت تخطوها كان ينتقل بصره إلى كعبيها نزولاً ومن ثمّ يحدقّ في عينيها صعوداً.
فرك جبينه الذي أحسه ساخناً من شدّة أشعة الشمس، وبدا له وكأنّه يسير هذه المسافة منذ سنوات، قرّر المضيّ من المدينة إلى قريتها مشياً على الأقدام، أتاح له هذا القرار المزيد من التفكير، فعلى كلّ حال صديقه سينتظره بعد غروب الشمس، ولديه الوقت بمتّسعه حتى يذهب مشياً على قدميه. يغلق عينيه ويحاول الاستمرار في المشي، مُصعب يعرف هذا الجبل ليلاً أكثر مما يعرفه نهاراً، رائحة التراب الأحمر أعادت له ذكريات تلك الليلة المجنونة، التي مهما حاول نسيانها لا يستطيع، بعد أن استطاع هو ورفيقه عبدالرحمن من نصب كمينٍ لفرقةٍ من جنود الإنجليز، بمرتينته الإنجليزية استطاع أن يصيدهم كما كان يصيد العصافير قبل اشتعال الثورة. أصيب في تلك الليلة عبدالرحمن إصابة بالغة، ولم يكن له من أملٍ سوى حمله على كتفه والسيرِ به إلى أقرب قرية، استقبله مجموعة من الفدائيين المدافعين عن القرية، وأوصلوه إلى ما يشبه المستشفى الميداني، حيث كانت هنالك ممرضة واحدة تعالج المصابين، ما أن وصل على مشارف المستشفى حتى خرجت الممرضة لمساعدته في نقل الجريح، وهناك أحسّ أن القمَر تآمر عليه، كأن شعاعه تركّز على وجهها لينيره بهالة يعجز عن نسيانها مهما فرك عينيه، عيناها لوزيتان، تُشبهان بلونهما الخشبِ البنيّ المائل للحمرة الملتصق ببندقيته الجديدة، الحزن يكسو ملامح وجهها، لكنّه يشي بقوةٍ تليق بفتاةٍ رقيقة خلف الكحل الذي يغطّي رمش عينها، الشال الخمريّ يتناسب مع بقايا الدم الجاف على قميصها الأبيض الذي يُخفي جسداً نُحت بيد ماهرة، كانت طويلة، الطول هو ما جعله يغنّي لها في المرات القادمة كثيراً، لولا صرخة صديقه التي أنقذته من الموقف المحرج الذي كان سيضع نفسه فيه لو استمرّ في النظر إليها بلا حراك.

استغرقت عملية انتزاع الرصاصة من صدر عبدالرحمن ثلثيّ الليل، ولأول مرة كان مُصعب هناك مع صديقه، وهذا أمرٌ بالنسبة لمُصعب يعد سابقةً من نوعها، فهو معروف ببرودة المشاعر، فقد كان دوماً يقول بأن المعركة طويلة، وعلينا التعوّد على الخسائر حتى لا تأكلنا شيئاً فشيئاً. عبدالرحمن كان الأوّل الذي يعرف سبب هذا التغيّر، فزيارات مُصعب المتكرره له في المستشفى كانت تدفعه للتساؤل، لكنّ الأسئلة ذهبت عندما رأى نظرات مُصعب تتجه نحو الممرضة. لا أحد في القرية يعرف كيف أحبا بعضهما، وكيف نصب لها كميناً حتى يجبرها على الحديث معه، كان يستخدم خطط حرب العصابات معها، وكان الفوز بدقائقٍ معها يعادل غارةً ناجحة على مستوطنة لليهود. هم لا يعرفون كيف انسحب من حياة القرية بعدما كان فرداً منهم وتعوّدوا عليه، الإشاعة كانت تقول أن والدها رفض طلب مُصعب من التقدم لابنته، فعلى رأيه الثورة كانت في انحسار، وهؤلاء الفدائيّون مصيرهم مجهول، كمصير هذه البلد. رفاقه من الفدائيّين كانو يقولون: جُرح عبدالرحمن قد شُفي تماماً، وكأن شيئاً لم يكن، لكن من أصيب فعلاً في تلك الحرب كان مُصعب، لم يُعد لطبيعته أبداً. انزوى قليلاً، وأصبح أكثر اهتماماً ببندقيته الإنجليزية، وأكثر إصراراً على القتال، هؤلاء لا يوضعون أبداً على قائمة الجرحى.

غافلته تلك الذكريات كسحابةٍ أمطرت في الصيف، أحسّ بضيقٍ في صدره، توقّف قليلاً وأخذ تنهيدةً على أمل طرد ما كان يمتصّ الهواء من صدره، فرك جبينه مرةً أخرى، كانت البرودة قد بدأت تأخذ طريقها مع مغيب الشمس، نظر إلى هذا الخضار الممتد على طول الطريق، وكيف تتناثر أشجار السرو على سطح الجبل كنجومٍ تتلألأ في ليل سماءٍ صافية، رائحة العشب تدفعه ليغوص في ذكرياته أعمق وأعمق، بعدما دخلت منعطف الغرفة المجاورة جاءت تجلس قريبةً منه، خدّها يتورّد بلون الدحنون المنتشر على الأرض أمامه، ولون عينيها بنيّة كلون التراب الجميل الذي يسير عليه، تتداخل المشاهد أمامه في تقاسيم وجهها بطريقةٍ غريبة دعته لينفض وجهه يميناً وشمالاً، صوت العصافير التي تغرّد منفردةً ذكّرته بكلماتها الخجولة، وكأنما تنطقها رغماً عنها، كان يستحثّها ليخرج منها الكلمات، فكانت تخرج قليلةً غير كافية، وكأنما يمدّ يديه ليملأهما بماءٍ ينزل قطرةً قطرةً. نفضَ رأسه مجدداً وقرّر أن يركز على المسير فقط بدون التفكير، فما فات قد مات، لكنّه همس لنفسه، ماذا لو لمحتها تسير في شوارع القرية؟


1 comment: