Saturday, July 4, 2015

كيف أصبحت مشجعاً للمنتخب الأرجنتيني؟

الجميع يقول بأن طفولته كانت غير اعتيادية، وأنا لم أكن مغفّلاً كفاية حتّى أصدقهم، فهذه الجملة مستهلكة مثل "قضاها في طاعة الله"، لكن في الحقيقة طفولتي كانت مليئة بالأحداث حيث يمكنني السماح بأن يرددها أحد اصدقائي عندما يتحدث عنّي بعد موتي- لا مانع عندي من ترديد قضاها في طاعة الله أيضاً- ففي سن السادسة كنت قد عشت في القرية وغزة ونابلس؛ ولهجتي الخاصة تشكّل مزيجاً من كلّ هؤلاء، مزيجاً لا يعجب أحداً لكنّه يعجبني أنا. كثرة الأحداث في فترة الطفولة وتشابكها يجعل انتشال حدثٍ معيّنٍ صغيرٍ أمراً بالغ الصعوبة، الأمر كما لو أنك تملك في حقيبتك الشخصية شاحن اللابتوب، الجوال، السماعات وأسلاك أخرى، وتحاول اخراج غرضٍ واحدٍ، ستنتشل الكثير بكلّ تأكيد، وهذا ما يحدث عندما أحاول تذكّر متى كانت المرّة الأولى التي قررت فيها أن أصبح مشجعاً للمنتخب الأرجنتيني. كلّما ألقيت دلوي داخل بئر الذاكرة وجدتني أنتشل حدثين أساسيين لا أعلم أيهما يسبق الآخر، أو مدى الترابط بينهما إن كان هنالك ترابط أصلاً، لكن هذا ما أتذكره على كلّ حال.

الأوّل: كان هذا في السنة الخامسة من عمري، طفل قروي ينتقل للعيش في المدينة بدون مقدّمات، وأعني خروجي من قرية حقيقية، فالقرى هذه الأيام بالكاد تُسمّى قرية،فأنا أتذكر حين خروجي من القرية لم يكن قد وصلها الماء أو الكهرباء بعدْ. أتذكر عندما كنت أقف في باحة المنزل وأصرخ: يلعن إمك يا أبو نافز. أبو نافز هذا كان من أهم سكّان القرية، فهو الذي يمتلك الماتور الذي يضخ الكهرباء للمنازل، يشغّله في أوقات معيّنة معروفة، عدة ساعات في النهار فقط. وكما ينفخ المؤذن في المايكرفون قبل أذان الفجر لينذر من يتسحّر، كان أبو نافز يقوم بإنزال الأمان ورفعه عدة مرات حتى ينذر الناس بأنّ الكهرباء ستُقطع. كان سبباً في تخريب العديد من الأجهزة الكهربائية في المنزل. وحتّى عندما نصب أحد شباب القرية برجاً لبثّ الانترنت فوق بيت أبو نافز، كان أبو نافز يقوم بإزالة قابسه الكهربائي قبل النوم حتى لا ترتفع حرارة البرج. تخيّلوا: أنا الفلاح القادم من قرية كنت ألعب فيها كرة القدم بدون حذاء وفي أرض أحد سكان القرية، حيث كانت تنتهي اللعبة إما بقدوم صاحب الأرض وبيده حجارة تتساقط علينا كالمطر مع الشتائم. أو بتراشق الحجارة بين اللاعبين على أسس عائلية، غالباً ما كانت تنتهي هكذا عندما نكون متقدمين بفارقٍ كبير، وهذا ما كان يحدث طيلة الوقت. انتقلت من كلّ هذا إلى مدرسة خاصّة حيث المواصلات الخاصّة والزي الموحّد، حيث لا مكان للتمرّد والهرب(في مدرسة القرية كنّا نهرب من المدرسة بشكل يومي، في أحد الأيام ابتعدنا كثيراً وقامت حمارة برفس أحد الأصدقاء في وجهه فقمنا بحمله كالشهيد إلى والده).
بعد أشهر من عدم التأقلم، قرّرت العائلة بأن أفضل طريقة لاندمج في هذا الوضع الجديد هي بتكوين الصداقات، وقرروا أن أذهب إلى الجيران بعدما جعلوني ارتدي أحسن الملابس. طرقت بابهم واخبرتهم بأنني جديد في هذه الحارة، وسمعت أن عندهم أطفال في مثل سنّي. وهنا عرفت لعبة الفيفا لأول مرة في حياتي، لا أذكر أي أصدارٍ كانت، لكنّ ما أذكره أنني ولمحض الصدفة كنت أحبّ أن ألعب بذلك الفريق القوي الذي لديه صورة شمس على علمه. كيف تطوّر الأمر إلى تعليق صورة باتيستوتا على جدار الخزانة؟ لا أعلم.

الثّاني: في زمنٍ قديم، كان الناس يقومون بفعل الأشياء بـطبيعة الحال، الأمور التي تأخذ الكثير من التفكير والرهبة هذه الأيام كانوا فقط يقومون بها. الزواج وانجاب الأطفال من الأمور التي تقلق شباب اليوم، بينما قديماً لم تكن محطّ سؤال. جدّي لأبي كان له قصّة أخرى مختلفة مع الزواج والأبناء، أجلسني ذات مرة قبل غروب الشمس بقليل وأخبرني بما حدث معه. في السنوات الخمس الأولى لزواجه لم يستطع الإنجاب رغم المحاولات الكثيرة وأيقن تماماً أنه لن يكون له ذريّة من بعده. كان شباب القرية يجتمعون كلّ فترة عند الحكواتي، وفي يومٍ ما قصّ عليهم قصة أبطالها ثلاثة شبّان: يحيى ومرعي ويونس ، القصة أعجبته كثيراً وتماهى معها، وذهب بعدها إلى قمّة الجبل القريب ودعى ربّه بأن يرزقه ثلاثة أولاد، وأن يجعل رزقه من المال ما يكفيه قوت يومه ولا أكثر. أنجبت زوجته بعدها ثلاثة أولاد: يحيى ومرعي ويونس، ولم تستطع إنجاب أكثر من ذلك. قال لي ما حدث معه بلهجة يملؤها الرضا والطيبة، وتركني بعدها مجذوباً نحو النور.

 على الكفّة الأخرى جدّي لأمي كان طبيعياً بمقياس ذلك الزمان، فعل أشياء تعتبر صعبة بمقياس اليوم، انجابه لعشرة أطفال ليس الأصعب، بينما أن تنجب نصفهم ذكوراً والنصف الآخر إناث؟ فهذا شيء تحتاج للكثير من الحظ لتحصل عليه. ولكوني الحفيد الأول للعائلة فقد ساعد هذا الأمر ليكون الفارق العمري بيني وبين أصغر خالٍ لي خمس سنوات فحسب. كان صديقاً لي أكثر منه خالاً، استطاع جدّي تعليمهم جميعهم بمن فيهم البنات في وقت لم يكن تعليم الشباب أمراً شائعاً. أخوالي الخمسة لا يجمعهم الشبه في الشكل فحسب، بل حب لعبة كرة القدم أيضاً. كان خالي الأصغر والأكبر منه عندما يلعبون كرة القدم يجعلوني حارس مرما في لعبة كنّا نسميها "الجول الإنجليزي"، ولذلك قد دخلت عالم لعبة كرة القدم والتشجيع قبل دخولي عالم المدرسة. اللعب المستمر معهم جعل نوعاً من التحدي يبرز بيننا، وإذا كان الشبه وحب لعبة كرة القدم لا يجمع أخوالي بما فيه الكفاية، فالأمر الأكبر كان تشجيعهم للبرازيل، حيثُ يبدو هنا تشجيعي لمنتخب الأرجنتين منطقياً.


 

No comments:

Post a Comment